هل حقاً أن القناعة كنزٌ لا يفنى ؟؟!

(( ليست وظيفة الفكر أن يلعن الشرّ الكامن في الموجودات، بل أن يستشعر الخطر الكامن في كل ما هو مألوف، وأن يجعل من كل ما هو راسخ موضع إشكال – ميشيل فوكو ))
=======================

جهلاء عرب ومتعلمون، متدينون وربما علمانيون، رجالاً ونساءاً، صغاراً وكباراً، متفقون بصورة غريبة على صحة العبارة القائلة ( القناعةُ كنزٌ لا يفنى ). يحتفي المجتمع بأسره بهذه الحكمة، فتشاهدها تارة في براويز زجاجية مخططة بشكل أنيق مرة بالخط الكوفي ومرة بالنسخ وثالثة بالفارسي، كما تراها دوماً كملصقات صغيرة موضوعة بعناية على تابلونات السيارات الخاصة والعامة وفي الجدران الداخلية للباصات. فما مدى صحة هذه العبارة، وكم تبلغ خطورتها على العقل العربي والإسلامي وكيف يتم إقناع الناس بها ؟؟؟ هل تفيد النظم الاستبدادية الفاسدة من اقتناع الناس بهذه الحكمة ؟؟؟
أكاد أجزم أن خطورة هذه العبارة على العقل العربي لا تقل عن خطورة الكثير من المعتقدات الفاسدة مثل ( ضع رأسك بين الرؤوس ) و ( الموت مع الجماعة رحمة ). اقتناع الملايين من الشعوب العربية بوجبات الفول والفلافل يأتي نتيجة هذه القناعة المخزية. يقول الشاعر المصري الرائع أحمد فؤاد نجم ساخراً من قناعة الناس بالفول:

عن موال الفول واللحمة صرّح مصدر قال مسئول
إن الطب تقدم جداً والدكتور محسن بيقول
إن الفول المصري عموماً يجعل م البني آدم غول
لحمة نباتي ولا فرحاتي تاكل قدرة تعيش مسطول

أما الراحل البديع نزار قباني فيسخر بشكل لاذع هو الآخر من مدى اقتناع الناس بما هو موجود وبأن الواقع أفضل من الخيال فتراه يقول:

بالحر قانعون .. وبالبرد قانعون
بالحرب قانعون .. وبالسلم قانعون
بالعقم قانعون .. وبالنسل قانعون
بكل ما في لوحنا المحفوظ في السماء قانعون
وكل ما نملك أن نقول إنا إلى الله لراجعون

لو كانت القناعة كنزٌ كما يدعي العرب والمسلمون، لما فكّر الإنسان في ابتكار المروحة الكهربائية وفيما بعد المكيفات. لو اقتنع إنسان الكهوف القديم بالصيد واكتفى به، لظل عرضة للجوع ومصادفات الطبيعة، ولكن بحثه عن الاستقرار والاكتفاء والديمومة أدى به إلى استئناس الخيل والماعز والخراف والإبل والأرانب ليرعاها وينتفع بأصوافها ولحومها، ولينتقل من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى. ولكن هل اقتنع الإنسان بالرعي وحده ؟؟؟ بالطبع لم يقتنع فاكتشف الزراعة التي قامت على مياه الأمطار ثم طور طرق الري في أحواض الأنهار مثل بلاد ما بين النهرين ودلتا النيل. إن القناعة بما هو قائم تنافي ديدن الإنسانية وحضاراتها المتعاقبة. لو كانت القناعة كنزٌ حقاً لاستمر الإنسان باستخدام البهائم للمواصلات إعمالاً لقول قثم بن عبد اللات في قرآنه " هو الذي سخر لكم الخيل والحمير والبغال لتركبوها " ولا نعلم ماذا سيقول قثم لو نهض الآن من رقاده ليشاهد السيارات الحديثة والسفن العملاقة والطائرات والغواصات وسفن الفضاء ؟؟؟ أين الحمير والبغال يا قثم التي اعتبرتها اختراعاً إلهياً كبيراً ؟؟ أين الحمير والإبل أيها المعتوه من كل ما أنجزه الإنسان الخارق دون اعتماده على إلهك العاجز والضعيف ؟؟!

لو كانت القناعة كنز، لاكتفينا بالزراعة على مياه الأمطار والأنهر ولم نقم بحفر الآبار الارتوازية لاتنشال الماء من عمق الصخور في باطن الأرض. لو كانت القناعة كذلك لما تمكنت روسيا في العام 2008 وحده من إنتاج مليون طن من الحبوب تعاقدت اليابان لشراء مليون طن منها فقط !!!
ولكن يظل السؤال الأهم: كيف يتم إقناع الشعوب العربية بهذه المقولة الخاطئة والأكثر خطراً من كل الأوبئة الفتاكة على حاضر شعوب المنطقة ومستقبلها ؟!
أذكر أنني قد تعلمت تلك المقولة في كتاب القراءة في الصف الثالث الابتدائي، ولاحظ عزيزي القاريء كم هي مبكرة تلك السن. يتم تسريب المقولة وزرعها في أدمغة الأطفال عن طريق أسطورة ساذجة سأكتب خلاصتها من ذاكرتي. تقول الأسطورة ( أن ثعلباً قد جاع يوماً فخرج يطلب الطعام فصادف مروره بالقرب من فتحة في سور كرم للعنب، وكانت الفتحة تناسب حجمه تماماً. دخل الثعلب من الفتحة وجعل يلتهم العنب بنهم شديد حتى امتلأ بطنه وانتفخ، وقد تصادف ذلك مع مرور حارس الكرم الذي ركض وراء الثعلب فاتجه الثعلب إلى الفتحة التي دخل منها وأراد الهرب، ولكن انتفاخ بطنه جعل حجمه أكبر من حجم الفتحة فلم يتمكن من الهرب، فأمسك به الحارس وقتله !! ). التساؤلات التي يطرحها مؤلف الأسطورة على الطلاب المساكين بعد الدرس تؤدي بخبث شديد أغراض التلقين وفرض الاستنتاج، مثل: لماذا لم يتمكن الثعلب من الهرب ؟؟؟ كيف تمكن الحارس من الإمساك بالثعلب ؟؟ لو كنت مكان الثعلب ماذا ستفعل ؟؟؟! كل الإجابات المحتملة تؤدي نفس الغرض، وهو أن عدم وجود قناعة لدى الثعلب بالتهام قدر بسيط من الطعام هو ما أدى به إلى التهلكة.

لا يتساءل الطفل في الصف الثالث كل التساؤلات المحتملة الأخرى، من مثل: لماذا كانت الفتحة مفصلة تفصيلاً دقيقاً بحجم الثعلب الجائع وما سر هذه المصادفة الغريبة ! لا يتساءل إن كان الثعلب يأكل العنب أصلاً !!

الإنسان القديم اعتقد بألوهية القمر ولكن الأجيال اللاحقة ومع تطور وتراكم اكتشافات البشرية لم تعد مقتنعة بتلك الألوهية، بل إن الإنسان الحديث وطأ بأقدامه ذلك الإله !!!

يجب نسف تلك العبارة والقيام بتمزيق ملصقاتها وتحطيم براويزها الزجاجية وإحراق صفحاتها من كتب الأطفال. القناعة كنزٌ يفنى بسرعة ولولا ذلك لما انتهى شريط التسجيل وحل الموبايل وفلاش الذاكرة مكانه. إنها عبارة تنافي رغبة الإنسان الفطرية بالبحث عن التطور والمؤكد أنها جزء خطير من عقيدة التخلف النابعة من مفاهيم القضاء والقدر والتسليم بما هو قائم والرضا بالمقسوم كما تقول العامة.
العراق يعاني من انحسار مياه وحق في الحياة لدولة بأسرها بسبب السدود التي أقامتها الجارة المسلمة تركيا ولا تفكير بهذه القضية ! في مصر ( بلد النيل ) يستخدمون مياه الصرف الصحي لري الخضروات والأشجار وثمانون مليوناً مغيبون تماماً عما يحدث لهم !! العاصمة الأردنية عمّان تعاني من نقص في مياه الشرب ولا من سائل ولا مسئول ! سوريا ( بلد الفينيقيين والحضارات المتعاقبة ) ومع الضائقة الاقتصادية التي سببها فساد النظام تخلفت اجتماعياً فساد فيها القتل المقرف بذريعة الشرف وعادت إلى أخلاق قبائل بدو الصحراء العربية ولا من نهضة فكرية ولا ثورة توقف هذا النظام عند حده !! قناعة حتى الموت بما هو قائم أو حالات " انتحار جماعي " كما قالت ذات مرة الوردة الفرعونية فاتن واصل !
إن كل من يحاول الدفاع بالإرهاب الفكري واللفظي عن الثقافة السائدة لصالح استمرار حالات الانتحار الجماعي في البلاد العربية والإسلامية هو واحد من إثنين: إما غبي مغيب بالمقدس ويهيم به شوقاً على حساب تفاقم المعاناة الإنسانية للناس، وإما أنه موظف لدى دوائر المخابرات المستفيدة من حالة التخلف وما أكثر هؤلاء وأولئك !!

الفول هو ما قسمه الله ويجب الاقتناع به !
والأوبئة غضب من الله وبالتالي فإن مقاومتها عبثية !
والزلازل والأعاصير عقاب جماعي من الله حتى للأطفال والأبرياء !!
حتى جور السلطان وفساد الأنظمة غضب من الله بسبب سوء أخلاق الناس !! أي أن الحق عليهم أيضاً !!!
قلة المطر غضب من الله لأن الناس لا تدفع الزكاة !! ( طيب تمطر لأجل الذين يدفعون !! )

كم هو ساذج هذا التفكير الديني، وصدق داوكينز إذ قال أن الإله هو أصل الشرور، وأضيف من عندي " وأصل الغباء أيضاً " !!

إن الشعوب التي تسلم بوجود الله كفكرة ومعتقد، هي ذاتها الشعوب التي فقدت إرادتها وطموحها واستبدلت العقل النشط والفعّال بالعقل الخامل والمهزوم.

وبعد كل ما سبق نعود للبداية فنتساءل: هل حقاً أن القناعة كنزٌ لا يفنى ؟؟؟!

شكراً للمتابعة

صلاح يوسف



Windows 7: It helps you do more. Explore Windows 7.