ما لا يفهمه المسلمون (على هامش النقاش الدائر بسويسرا)

 

أظهر النقاش الذي كانت سويسرا مسرحا له في الأيام الأخيرة، و الذي حسم باستفتاء شعبي صوت فيه الشعب السويسري ضد مطالب المسلمين السويسريين، أظهر حقيقة الأزمة التي يعيشها المسلمون بالبلدان الغربية الديمقراطية، و هي أزمة تتشخص أساسا في أنّ مشكلتهم هي في وقوعهم في شرك الوهابية العالمية المسلحة بالثروة النفطية، و في أحابيل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، اللذين استطاعا أن يعرقلا بنجاح اندماج المسلمين السلمي و الحضاري في البلدان الغربية المتقدمة.
كانت سويسرا و ما تزال بلدا يثير إعجاب كل العالم بنظامه و قوانينه و نظافته و جمال طبيعته و رفاهية أهله و احترامهم للقانون، و كان الجيل الأول من المهاجرين المسلمين يأتي من المهجر خلال أيام العطل ليحكي بانبهار تفاصيل ما ينعم به في ذلك البلد الأوروبي من حقوق و رغيد عيش، كما لم يكن معظمهم يتوانى عن التعبير عن أسفه لما يجده في بلده الأصلي من فوضى و خرق للحقوق و هدر للكرامة و احتقار للإنسان.
و لكن هاهم مسلمو اليوم ـ الذين يختلفون عن مسلمي الأمس بدرجة إصابتهم بطاعون الوهابية و وباء الإخوان المسلمين ـ و الذين يعيشون في بحبوحة الرفاهية الغربية، متمتعين بكل الحقوق التي يتساوون فيها مع غيرهم من المواطنين السويسريين، ها هم يقيمون الدنيا و لا يقعدونها لأنهم "ظلموا"، ليس في حق من الحقوق المتعارف عليها في البلاد الغربية، بل في حق "خصوصي" جدا، هو حقهم في أن تكون لمساجدهم مآذن طويلة و عريضة كما في البلدان الشرقية، و أن تكون لهذه المآذن ـ و لم لا ـ أبواق تشنف أسماع كل السكان الآخرين بالآذان على الطريقة السعودية، و من يدري فلربما تأثر هؤلاء الكفار الغربيون بالترانيم الشجية للمؤذن ـ المنشد فيهديهم الله للإسلام.
لم يجد مسلمو سويسرا من مشكل يطرحونه على دولتهم الديمقراطية الجميلة البهية، فهم ينعمون بكل حقوقهم كغيرهم تماما، و لكن التطرف الديني البدوي، و الذي لا يمكن أن يدع مسلما ينام في طمأنينة و أمان، وسوس لهم بأن مشكلتهم هي في الصوامع و في الآذان، و بأن الديمقراطية الغربية قابلة للإختراق من خلال مبادئها المتسامحة، من أجل إعادة تشكيل الفضاء السويسري بالتدريج وفق مقتضيات البداوة العربية. ففي سويسرا 170 مسجدا لا يتوفر منها على مآذن إلا أربعة فقط، و المطلوب المزيد من المآذن، و المزيد من أسلمة الفضاء العام، تطبيقا للديمقراطية الغربية المتسامحة، هذا هو مطلب المسلمين اليوم في سويسرا.
و السؤال المطروح هو : لماذا صوت الشعب السويسري، المشبع بمبادئ الحرية و المساواة، ضد مساعي المسلمين ؟ هل تنكر الشعب السويسري للمبادئ التي تربى عليها ؟ و من أين جاء هذا الخرف من صوامع المسلمين و مآذنهم ؟ الجواب هو أن الشعب السويسري لم ير في مساعي المسلمين مطلبا ديمقراطيا، بل قرأ فيها أمورا أصابته بالرعب بعد ما لاحظ سلوكهم و ثقافتهم و قيمهم التي يبشرون بها، و التي لا يتوانون عن التأكيد على أنها تجعلهم مختلفين عن غيرهم، و ذوي "خصوصيات" خاصة جدا يعتبرونها "أفضل" مما لدى الناس، إنه خوف مبعثه الشعور بوجود شيء يتم الإعداد له ليس من قيم سويسرا و لا هو من حضارتها، شيء غريب لا يقبل أن ينسجم مع غيره و لا أن يتعايش مع ما يخالفه، شيء هو على طرف النقيض تماما من المبادئ التي قامت عليها دولة سويسرا العصرية، فالإسلام في الغرب ليس مجرد صلاة و إيمان باطني، بل حولته الوهابية إلى إيديولوجيا للحقد على حضارة الغرب و ثقافته، و مساجد المسلمين في الغرب ليست مجرد أماكن للعبادة كالكنائس أو البيع أو المعابد البوذية، بل أصبحت بفضل الدعاة و الأئمة الممولين تمويلا جيدا فضاءات لنشر قيم و أفكار جعلت المسلمين يعيشون في ورطة حقيقية، و في أزمة هوية خانقة و مليئة بالمفارقات:
يريد مسلمو سويسرا و الغرب عموما استعادة الإسلام "الصافي" و "النقي" كما هو في منابعه الأصلية "مكة" و "المدينة المنورة" ، أي بلاد الحجاز، و برواية و تفسير علماء السلف، و لكن دون مغادرة البلاد الغربية أو التفريط في مكاسبهم فيها، و دون التفريط في هياكل و قوانين الدولة الديمقراطية التي ينعمون تحت ظلها بكل الحقوق، يريدون أموال الغرب و حقوقه و مكاسبه المادية، و لا يريدون قيمه و فلسفته التي بفضلها ينعمون بتلك الحقوق، يريدون الإسلام بالطريقة التي تركوها في بلدانهم، و لا يريدون العودة إلى تلك البلدان لـ"ينعموا" فيها بإسلامهم الذي يتوقون إليه.
لم يفهم المسلمون بعد بأن عليهم الإختيار الحاسم بين الإسلام كما تروج له العشائر النفطية، و بين الديمقراطية الغربية التي ينعمون بها، و لا مجال أبدا للتوفيق بينهما لأنهما نقيضان لا يلتقيان. و لا خيار لهم في حالة تشبثهم بالإسلام السلفي البدوي إلا مغادرة البلاد الغربية إلى "دار الإسلام".
ما لم يفهمه المسلمون أيضا هو أنّ الديمقراطية كل لا يتجزأ، و أن الشعوب الديمقراطية قادرة على المضي بعيدا في قبول الإختلاف و التنوع و الخصوصيات، لكنها لن تقبل أبدا بخصوصية تنتهي إلى هدم الديمقراطية أو تقويض أسسها. فالديمقراطية تقبل كل شيء إلا ما يهدمها.
و خلافا لما يدّعيه بعض إسلاميي الغرب كطارق رمضان و غيره، ليس المطلوب هو تركيع الديمقراطيات الغربية لصالح خصوصيات المسلمين، بل لا حلّ لهذه الإشكالية العويصة إلا بإعادة قراءة الدين و فهمه على ضوء مكاسب الحضارة الغربية و ليس بدونها و لا قبلها، أي أن مسلمي الغرب بحاجة إلى إسلام حديث عصري و متنور، و ليس إلى إسلام بدوي عنيف و وحشي. و هو ما يعني تطبيق القاعدة التي أرشد إليها علماء الكلام المعتزلة المسلمين منذ ثلاثة عشر قرنا : إذا تعارض النص و العقل فخذ العقل، و قم بتأويل النص حسب المصالح التي يرشدك إليها عقلك، و هو ما لا تقبله الوهابية الحنبلية المتشددة و اللاعقلانية.
يظهر ما جرى بسويسرا و ما يتهيأ بفرنسا و إيطاليا و هولندا، بأنّ المسلمين بسعيهم إلى فرض قيم سلفية على مجتمعات عصرية و ديمقراطية سيدفعون أغلبية هذه الدول إلى اتخاذ قرارات حاسمة لحماية أنظمتهم الديمقراطية التي بذلوا من أجلها تضحيات جسيمة، و هو ما سيجعل وضعية المسلمين في الغرب تزداد تأزما، و ينذر بدخولهم في صراعات خطيرة تهدد السلم و الإستقرار في تلك الدول، و هو ما سيؤدي إلى مزيد من العداء لهم، و يجعل الدول الغربية تقرر بشكل نهائي لا رجعة فيه تخيير المسلمين بين احترام قيمها بشكل كامل و مبدئي، أو مغادرة بلدانها إلى بلدان المسلمين حيث يمكنهم أن يعيشوا الإسلام "الخام" كما يحلمون به في ظروفه الطبيعية، ظروف القهر و الإستبداد الأسود.

أحمد عصيد
ahmedaassid@yahoo.fr



New Windows 7: Find the right PC for you. Learn more.